أحدث الأخبارمقالات

بعنوان: “دورٌ يبحثُ عن بطل”

إذاعة صوت الشعب _ بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

بالرغم من أن العنوان (الاسترزاق السياسي) يُسلط الضوء على شكلٍ واحدٍ من الاسترزاق، إلا أننا سجلناه بهذه الصيغة بوصفه العنوان أو الشكل أو الغطاء لكافة أشكال الاسترزاق الأخرى (المالي، الوظيفي، الأكاديمي، التجاري، الوجاهي، الإعلامي.. الخ)؛ فالاسترزاق السياسي ينطوي على كافة هذه الأشكال الُمعبّر عنها بالسعي الحثيث وراء المصالح الشخصية والفئوية والحزبية على حساب القضايا الوطنية، تحت يافطةٍ وطنيةٍ وسياسية.

ونقصد بمفهوم الاسترزاق السياسي، قيام أشخاص وفئات أو أحزاب أو حركات بأداء أدوارٍ ووظائفٍ محددةٍ في الحياة السياسية، لقاء أجرٍ ماديٍ، أو عيني، أو سياسي، أو رشاوٍ متنوعةٍ، أو تحقيق مكاسبٍ معينة.

ومن المؤسف، أن حركة التحرر الفلسطينية المعاصرة شهدت أشكالاً من الاسترزاق، وجدت تعبيرها ببعض الفصائل والمجموعات قديماً وحديثاً، وأبت على لعب دور المسترزق أو المرتزقة على حساب القضايا الوطنية والعامة.

ونحن لن نسعى إلى إبراز أسماء الحركات والمجموعات واستحضار الأمثلة والشواهد، وذلك حتى لا نسئ لأحد بقصدٍ أو بغير قصد، ومن جانبٍ آخر لأن “روح القبيلة السياسية” السائدة، لن تتفهم ما نرمي إليه، وستنبري للدفاع عن ذاتها ومواقفها، ولكن دعونا نعالج هذه المسألة من زاويةٍ فكرية، ومن ثم نلجأ إلى معالجة الظاهرة في الحالة الفلسطينية.

لقد عرف التاريخ الإنساني أشكالاً مختلفةً من ظاهرة الاسترزاق منها السياسي، العسكري، الثقافي، الأيديولوجي، المالي، وخلقت الامبراطوريات والدول الكبرى قديماً وحديثاً جيوشاً من المرتزقة في ميادينِ السياسةِ والعسكرِ والثقافةِ والصحافة.. الخ.

وعموماً، تلجأ الدول، لاسيما المتصارعة منها مع دول وقوى أخرى، إلى خلقِ جماعاتٍ أو فئاتٍ أو أحزابٍ أو جيوشٍ تابعةٍ ومؤيدةٍ لها تعمل على الترويج لهذه الدول وسياساتها ومصالحها ومشاريعها في كلِ زاويةٍ من العالم، وبالأخص في قلبِ الدولِ المتخاصمةِ معها بغية تحقيق غايات وأهداف تحددها الدولة، وتنفق أموالاً طائلة إلى جانبِ الدعمِ العسكريِ والسياسيِ والثقافيِ والأكاديميِ والعلميِ، وتقوم بأنشطة وفعاليات متنوعة لإنجاز أهدافها.

ومن ناحيةٍ ثانية قد تقوم جماعة أو منظمة أو دولة بأداء دورٍ وظيفي في خدمة دولةٍ أخرى، مقابل ثمن محدد، تعرفه الدولة بالمصالح، ولا ترى بأداء مثل هذا الدور ما ينتقص من كرامتها الوطنية أو سيادتها، بل تراه يقع في صلب مصالحها العليا.

بيد أن مسألة “المصالح”، تُعد من أخطر الإشكاليات السياسية وأعقدها، إذ أنها في العادة تجري عملية مفاضلتها بالأخلاق والمبادئ والمثل والقيم السياسية والاجتماعية والثقافية. كأن تقيم دولة ديمقراطية علاقات عميقة مع دولةٍ رجعيةٍ واستبدادية، أو تفتح بلد ماء أجواءها ومطاراتها وأراضيها لدولةٍ أخرى لاحتلال أو الاعتداء على بلدٍ ثالث، أو أن تقوم دولة قوية وغنية بالهيمنة على دولةٍ أو دولٍ فقيرة، وتنهب ثرواتها وتستعبد شعوبها بالتواطؤ مع أنظمتها الحاكمة.

وبالإمكان استحضار المئات من الأمثلة، في ممارساتٍ ومواقفٍ لدول إزاء بعضها البعض بذريعة المصالح العليا للدولة، رغم انطوائها على بعضِ السمات التي تأخذ شكل الاسترزاق السياسي، وفي بعض الأحيان تنطوي ممارسات الدولة أو النظام الذي يمارس هذا الشكل من الاسترزاق على مخاطرٍ جسيمةٍ قد تلامس الخيانة العظمى للبلد، كأن تقوم حكومة معينة على مقايضة حقوق شعبها أو مصيره أو ثرواته أو زجه بحروبٍ لا ناقة له فيها ولا جمل، أو توريطه بديونٍ ثقيلة يصعب عليه تسديدها لعقودٍ طويلة… وكل ذلك باسم المصلحة الوطنية، مع أنه يحمل في طياته استرزاقاً سياسياً لصالح طبقةٍ أو فئةٍ وشخصياتٍ داخل البلد.

وقد تقوم حركة أو حزب بأنشطةٍ وفعالياتٍ مخالفة لمصلحة بلدانها لصالح بلدٍ آخر قد يكون معادياً لبلدانها الأم، فإن بعض الدول تعتبر مثل هذه الأنشطة خيانة عظمى للبلد، ما لم تسعى تلك الحركات، لا سيما تلك التي تعتنق أو تتبنى أيديولوجيا عالمية، للتوفيق بين مواقفها الوطنية ومصالح بلدانها وبين مواقفها الأيديولوجية التي تعتبر في كثير من الحالات – من ناحية الدول والأنظمة – قضية استرزاق سياسي أو حتى خيانة وطنية، ينبغي العمل على وضع حدٍ لها، فتلجأ إلى حل تلك الحركات، وملاحقة قادتها وأعضائها، والزج بهم في سجونها أو إعدامهم أو إقصائهم عن الحياة السياسية.

أما في تجربة حركات التحرر الوطني التي تقاتل عدواً أجنبياً يحتل أرضها، فإن المسألة تصبح أكثر تعقيداً. ففي الوقت الذي تسعى فيه حركات التحرر لخلقٍ أوسع اصطفاف حولها، وأكبر تأييد عالمي لقضاياها، تحاول تلك الحركات النأي بنفسها عن الصراعات الدولية، والوقوف على مسافةٍ واحدة من الأطراف المتنازعة، بهدف كسب تأييدها جميعاً، إلا إذا كان عدوها ينضوي في إحدى التحالفات الإقليمية أو العالمية، عندها قد تجرد الحركة التحررية نفسها إما في حالةِ حياء، أو الانضواء في المعسكر المناوئ إذا وجدت أن مصلحتها التحررية تقتضي منها مثل هذا الانضواء.

وفي هذه الحالة لا يُعد انضواء الحركة التحررية في إحدى المعسكرات أو التحالفات الدولية، في موقف استرزاق سياسي، حتى وإن وقفت إلى جانب بلدٍ صديق يدعمها أثناء الحرب إلا إذا عملت كمرتزقة، وأخلت بمبدأ مصلحتها التحررية.

غير أن إشكالية التعددية السياسية والأيديولوجية في حركات التحرر الوطني، كما في حالتنا الفلسطينية، قد تدفع ببعض القوى أن تلعب دور المرتزقة أو الاسترزاق السياسي، بقيامها بأداء أدوارٍ بعيدةٍ عن الغايات الوطنية وقد تلحق ضرراً بمصلحة وطنها وثورتها ومعركتها التحررية. فقد لعبت بعض المجموعات والحركات الفلسطينية أدواراً متنوعةً في خدمة أنظمة ودول جماعات، مقابل الإقامة والدعم السياسي والمالي، كالقيام بأداء عمليات تخريبية أو اغتيال شخصيات معينة، بشكلٍ يتنافى أو يضر بالمصلحة الوطنية.

ومن جانبٍ آخر – وهو الأخطر – ظهرت بعض الحركات السياسية منذ عقود، لم يكن لها في الواقع أي دور في العملية الكفاحية، ولا وزن لها في الواقع السياسي والنضالي والجماهيري والميداني. وفي المقابل نجد مثل هذه الحركات تؤدي أدواراً سياسيةً في خدمةِ نهجٍ سياسيٍ محدد، مقابل امتيازات مالية وسياسية ووجاهية أو إعلامية وغيرها، علاوةً على الدور المشبوه الذي تلعبه بعض منظمات الـNGO’s مقابل أموال طائلة تحصل عليها من جهات ومنظمات دولية معادية.

إن ظاهرة الاسترزاق السياسي باتت شائعة في الحالة الفلسطينية وهي نتاجٌ لأزمة حركة التحرر الوطني الفلسطيني في العقود الأخيرة، في ضوء تعثر تجربتها التحررية. ففي الماضي كان الأفراد ينتمون إلى الحركات الفدائية استجابةً لواجبهم الوطني وليس بحثاً عن حقوقٍ وامتيازات، وكانت الفصائل الوطنية في زمن الثورة هي المكان الملائم للمناضلين، الذين لم يكن تشغلهم الحقوق والاستحقاقات والمغانم، وإنما يشغلهم فقط الكفاح والتضحية لاسترداد الوطن وتحريره. أما في مرحلة الانتكاسبة تصبح الحركات ملاذاً للمسترزقين والمتسولين والمأجورين والباحثين عن اقتناص الفرص، والباحثين عن حقوقهم والهاربين من واجباتهم.

ففي مرحلة التحرر الوطني، لا يجوز الاسترزاق والتسول، ولا يجوز تعطيل القوى والطاقات وإنما ينبغي تفعيلها، ومن يتقاعس عن أداء دوره من الحركات السياسية، فإن الواقع سيرغمه على الفناء والاندثار.

غير أن الحالة الشاذة التي تشهدها المرحلة التحررية الحالية هي العامل الرئيسي في تفاقم الأزمة التحررية الفلسطينية. وهذه الحالة هي مزيجٌ بين المرحلة التحررية وبين مرحلة الدولة، وهو ما سمح بنشوء واقعٍ غريب: سلطة سياسية ومقاومة في ذات الوقت، حيث باتت كل حالة تؤثر سلباً على الحالة الأخرى.

فلا السلطة تدعم المقاومة ولا المقاومة تساهم في تعزيز ودعم السلطة. وفي ضوء هذه الأزمة تنشأ حركات سياسية تقتات على الاسترزاق السياسي من دون أن تؤدي دوراً نضالياً ملموساً، أما الأدهى فيتمثل بانتعاش ما يُسمى المنظمات غير الحكومية NGO’s ونخص منها تحديداً تلك التي تؤدي أدواراً مشبوهةً مقابل مبالغ مالية طائلة، ولا تخدم أنشطتها المعركة التحررية، ولا تتقاطع فعالياتها مع المصلحة الوطنية.

وعموماً ليس لدينا وصفات جاهزة ولا اقتراحات حلول مثل هكذا آفات.. ومع ذلك يمكننا القول ” أن الفعل الثوري المقاوم من شأنه أن يقلص من مساحة الاسترزاق السياسي. مع التأكيد على أن بقاء مثل هذه الظواهر ونحن في قلب المعركة من شأنه أن يُشكّل خنجراً في الخاصرة، ولا سبيل لعلاج مثل هكذا إشكاليات إلا من خلال مؤسسات وطنية وديمقراطية جامعة وحيوية وفاعلة وقوية، ترسم الخطوط السياسية ومحدداتها، وتصنع السياسيات، وتُجرّم الاسترزاق السياسي على حساب القضايا الوطنية.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى