أحدث الأخباررئيسية 1مقالات

دورٌ يبحثُ عن بطل

بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

إذاعة صوت الشعب

الحلقة الثالثة: القبائل السياسية

أفضت التَحولّات العاصفة في الحالة الفلسطينية، منذ ثلاثة عقود، إلى جانب الانتكاسات المتكررة في التجربة الثورية الفلسطينية إلى تراجعٍ خطيرٍ في أداء ودور الفصائل/ الأحزاب الفلسطينية التي تَحولّت من وسائل لإنجاز غاية التحرير والعودة، إلى غاياتٍ بحد ذاتها، فيما تَحولّت القضية الوطنية إلى وسيلةٍ للبقاء والاسترزاق السياسي.

غير أن أخطر ما تشهده الحالة الفلسطينية الراهنة، يَتمثّل في تَحوّل الفصائل والأحزاب السياسية، إلى حالةٍ أشبه بـ”القبائل السياسية”، أكثر من كونها أحزاباً سياسيةً تؤدي مهامها ووظائفها السياسية والنضالية والوطنية التاريخية، وهو ما يشبه إلى حدٍ ما الحالة الفلسطينية في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كانت الأحزاب السياسية مجرد واجهات للعائلات والقبائل الفلسطينية المتنازعة.

وقد يبدو هذا التوصيف مبالغاً فيه، وغير موضوعي، ويثير الكثير من الاحتجاجات، لكننا ورغم التقدير للفصائل الوطنية وتاريخها وتضحياتها، سنصر على هذا التوصيف، بهدف النقد، وليس المزايدة أو المماحكة، وسنركز على العديد من الثغرات وبعض السمات التي باتت تتسم بها الفصائل الوطنية، والتي أدت بنا إلى استخدام هذا التعبير.

إن سبب إصرارنا على تعبير “القبائلية السياسية” إنما ينبع من العوامل التالية:

أولًا: تشهد الساحة السياسية والحزبية الفلسطينية حالةً غير مسبوقة من الانحطاط والضعف والترهل والتخبط، حيث أنتجت الأزمة الوطنية منذ أوسلو وحتى اليوم حالةً حزبيةً متكلسةً، وتراجع دورها في الحياة العامة، وتخلي الكثير منها عن وظائفها السياسية والاجتماعية والنضالية، وتقهقر خطابها التحشيدي والجماهيري، أما مؤتمراتها واجتماعاتها فقد باتت أشبه بالجلسات القبائلية، بحيث يجري التباحث في شؤون الحزب/ الحركة وقضاياها الداخلية أكثر من الحيز المخصص للشؤون السياسية والوطنية، والآليات الداخلية التي تحكمها أشبه بالنظام الذي يحكم العشائر، وحلت الطاعة مكان الانضباط والارتجالية في اتخاذ القرار مكان المركزية الديمقراطية، أما طقس الانتخابات فقد غدا محسومًا سلفًا بلا أي تنافس جدي أو محفزات، وقادة الفصائل غدو مثل شيوخ القبائل لا يخضعون لأيِ مساءلةٍ أو تجديد، ويشغلون مواقعهم مدى الحياة.

ثانيًا: تسود الحالة الحزبية الفلسطينية، أشكال من التعصب الخالي من أيِ مضمونٍ وطنيٍ أو فكريٍ أو كفاحيٍ، وهو ما يذكرنا بالعصبية القبلية التي تقوم على أساس روابط الدم وأوهام أصالة القبائل ونسبها وشرفها ورموزها، فيما العصبية أو التعصب في “القبلية السياسية الفلسطينية” تقوم على أساس أوهام التفوق والحزبية الضيقة والسرديات الحزبية التاريخية، والتي تقود أحياناً إلى العنف.

ثالثًا: لم تتمكن الفصائل الفلسطينية من تطوير خطاب حزبي – سياسي ناضج مبني على أساس ثقافة المجتمع المدني، ويليق بمرحلة التحرر الوطني، فيما ظلت الخطابات الحزبية وسرديات الفصائل عن ذاتها تشبه إلى حدٍ بعيد سرديات القبائل عن ذاتها، وكل ذلك على حساب السردية الوطنية الجامعة، وبات السعي لإعلاء اسم الفصيل على حساب القضايا الوطنية هو الشغل السائد.

رابعًا: أما الصراعات الفصائلية فقد اتخذت في بعض المحطات شكلاً من أشكال الصراعات القبلية، سواء من حيث الاقتتال التناحري، كما جرى على أرض قطاع غزة قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، أو من حيث المصالحات التي كانت تتخذ شكل المصالحات العشائرية من دون التوصل إلى صيغٍ وطنيةٍ وسياسيةٍ، تلزم الأطراف المختلفة بالارتقاء إلى مستوى التضحيات أو المخاطر المحدقة، وتًحرّم الاعتقال الداخلي. أما التراشق الإعلامي، فكان يبتعد في كثير من الأحيان عن اللغة واللياقة السياسية، ويأخذ أبعاداً شخصيةً ومزايدات مبتذلة، وهو يشبه إلى حدٍ بعيدٍ تندرات القبائل ببعضها البعض، والضرب على وتر عيوب ومثالب بعضها.

وصار الُكتّاب والناطقون والإعلاميون المدافعين عن فصائلهم أشبه بشعراء القبائل، في قصائدهم المدحية لقبائلهم، والهجائية ضد القبائل المناوئة من دون أن تصل الثقافة الوطنية برمتها إلى تطوير اتجاهات نقدية للحالة الفلسطينية بغية تصحيح الأخطاء والمسارات.

خامسًا: كانت القبيلة بالنسبة للإنسان العربي القديم تعبير عن هويته وانتمائه وإحساسه، وحاجته للحماية، وكذلك إطاراً لتوزيع الغنائم من بعد معارك الغزو.

وفي الحالة  الفلسطينية تَحولّت الفصائل الوطنية، إلى أطرٍ تُعبّر عن هويات حزبية ضيقة وتوفر حماية لأفرادها، والأهم أطرًا لتوزيع الغنائم في عصر الانحطاط الذي نعيشه، ففي زمن المد الثوري كان الانتماء للفصائل المقاومة تعبير عن انتماء وطني وسياسي يحتاجه المناضل ليمارس نضاله، ويُقدم تضحيته وواجبه في سبيل القضية والوطن.

وكان الواجب يسبق الحق، أما اليوم فقد باتت صيغة الانتماء للفصائل في جانبٍ كبير منها تعني البحث عن الحقوق والفرص وجمع الغنائم. فصار الحق يسبق الواجب.

 ومن زاويةٍ ثانية ثمة أحزاب ومكونات سياسية لا وجود لها على أرض الواقع، أو لها وجود هامشي لا يذكر، وباتت تحمل اسمًا وعنوانًا وتحظى بمخصصات مالية ضخمة لا تتناسب مع حجمها، وتفوق ما تقدمه من خدماتٍ وتضحيات، وأصبحت مثل هذه الفصائل مجراطر لتوزيع الغنائم ليس إلا.

وباختصار أصبحت لغة المرحلة، هي القتال من أجل إحراز الحق في الغنيمة، والهروب من دفع الواجب الوطني.

إن هذه السمات الخمس التي تتقاطع فيها حال الفصائل الوطنية مع القبلية، إنما تنطوي على حالةٍ من الانحطاط والتخلف وشيخوخة الحياة الحزبية الفلسطينية، إذا ما قارناها بحيوية الحياة الحزبية في الكيان الصهيوني.

كما أنها تعبير عن تخلف الطبقة السياسية الفلسطينية، وعجزها عن تطوير المجتمع السياسي والمدني.

ومن المفارقات، أننا في زمن المد الثوري، كنا نشهد تراجعًا للروح القبلية والعشائرية، كما كان الحال عليه أثناء ثورة العام 36 حيث أصبحت الثورة، وما تحمله من روحٍ وطنيةٍ صاعدة، تحل مكان القبيلة والعائلة، فيما كانت المرحلة السابقة للثورة، بأنشطتها وأحزابها وصراعاتها تُعبّر عن نزاعات قبلية معروفة.

وكذلك كان الحال في الثورة المعاصرة حين تَحولّت فصائل الثورة وما تحمله من مضامين سياسية وفكرية وكفاحية ووطنية، إلى أطرٍ تجمع المناضلين الباحثين عن أقرب طريق لتحرير فلسطين.

وفي تجربة الأرض المحتلة قمعت الانتفاضة الأولى وما حملته من ثقافة وطنية، وروح تضامنية عالية، أية نزعات تنم عن سيادة روح القبيلة على الحزب أو الوطن. وكان الأخوة في البيت الواحد وأبناء القبيلة يتوزعون على مختلف الفصائل، ويتسابق الجميع في خدمة القضية الوطنية.

 وما أن انتكست الانتفاضة الأولى حتى راحت تتنامى النزعات القبلية والعشائرية، حيث جرى التعبير عنها بأكثر من شكل (الانتخابات البلدية، التشريعية الأولى عام 96، التنادي للثارات، صندوق القبيلة، ديوان القبيلة والعشيرة.. الخ).

وتسارعت وتيرة هذه الظواهر بعد انتكاسة الانتفاضة الثانية واستيقظت الروح القبلية كاستجابةٍ لتراجع الفصائل الوطنية، وما كانت تلعبه من دورٍ سياسيٍ ووطنيٍ وكفاحيٍ في الساحة الفلسطينية.

إن تعبير “القبائل السياسية” الذي اشتققناه، للتعبير عن الحالة الحزبية المتردية في فلسطين، وإلى جانب السمات التي أوردناها قبل قليل، فبوسعنا أن نضيف بعضاً من المظاهر التي باتت تتسم بها القبائلية السياسية.

فقد حلت التقاليد الحزبية مكان الأسس والمبادئ والأعراف مكان القوانين واللوائح الناظمة، والخطب السياسية الشعبوية، فكان الخطابات السياسية الناضجة المتزنة.

أما العامل الأساسي الذي يكمن وراء هذه الظاهرة، يتمثل في غياب المؤسسات السياسية الفاعلة، والإقصاء السياسي، والاستئثار بالقرارات السياسية والوطنية. فمنذ تشكيل السلطة الوطنية والهيمنة عليها من قبل فصيل واحد أدى إلى إضعاف وتهميش بقية الفصائل الأخرى، وأضعف من تجربتها، وقلّص من حيزها ونشاطها السياسي والنضالي حيث أخفقت مرحلة السلطة في تطوير ثقافة ديمقراطية تسمح بانتعاش الحياة الحزبية، فلا هي بقيت فصائلاً ثورية مثلما كان عليه الحال قبل تَشكّل السلطة، ولا هي تَحولّت إلى أحزابٍ سياسية تمارس مهامها ووظائفها وأنشطتها، سواء في مؤسسات السلطة، كالمجلس التشريعي أو في الشارع، أو في وسائل الإعلام. وتراجعت مساحة الحريات، وجرى تضييق الخناق على أنشطة الفصائل لأسبابٍ ودوافعٍ مختلفة.

وفي المحصلة، أنتجت الحالة المتداخلة بين النضال الوطني وبناء السلطة – أي مرحلة التحرر الوطني ومرحلة الدولة – أنتجت حالة هلامية، بنصف فصائل وبنصف أحزاب، وأخذت هذه التجربة بالتلاشي، وتهشمت قواعدها التنظيمية حيث كشفت الانتفاضة الثانية عن هذا الضعف والهشاشة في البنى التنظيمية للفصائل، حيث عجزت عن إسناد ودعم أذرعها العسكرية الميدانية، وعجزت عن تشكيل الأطر القيادية الموحدة لقيادة وتوجيه الانتفاضة.

وفي المرحلة الحالية نكشف ضعف الفصائل وانكافؤها عن ممارسة دورها ومسؤولياتها إزاء ما يجري من ممارسات احتلالية على الأرض، وما تشهده الساحة الفلسطينية من تنامي لمظاهر المقاومة المتنوعة، جعل الفصائل الوطنية الرئيسية على هامش هذا الحراك، وعزز من تفاقم هذه الحالة، استمرار الانقسام الوطني وتجميد المؤسسات الوطنية، وهيمنة الفصيلين الأكبرين على الأوضاع في الضفة والقطاع، ونشوء سلطتين واحدة في الضفة وأخرى في غزة، بحيث غدت فتح إلى حدٍ ما ملاحقة في غزة، وغدت حماس ملاحقة في الضفة، ولم تسعَ الفصائل عمومًا، وبشكلٍ جدي لإنهاء الحالة الشاذة الراهنة المُتمثلة بالانقسام الوطني.

وباختصار، فإن تعبير “القبيلة السياسية” وإن كان حادًا أو مبالغًا فيه – ينطوي على ثلاثة مركبات: (العصبية الحزبية – التقاليد الحزبية المتكلسة – الغنائم) مع تراجع للهويات السياسية والأيديولويجة بأشكالها المختلفة، وباتت الهوية الحزبية تطغى على الهوية الوطنية، وقوام هذه الهوية الحزبية: سرديات الفصائل عن ذاتها – راية الحزب – قسم الحزب – انطلاقة الحزب – شعارات الحزب.. الخ.

إن استعادة الفصائل/ الأحزاب الوطنية لدورها السياسي التحرري مرتبط بالمؤسسات والبيئة الديمقراطية، وإعادة تجديد بنى الأحزاب وتطويرها على أسسٍ حديثة.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى