أحدث الأخبارمقالات

“على صفيحٍ ساخن” الحلقة الحادية عشر

بقلم الأسير: كميل أبو حنيش

إذاعة صوت الشعب

الحلقة الحادية عشر: من الكف الأخضر حتى عرين الأسود 

يمتدُ خطٌ طويلٌ ومتعرجٌ، في التجربةِ الكفاحيةِ الفلسطينيةِ منذ أكثرِ من مئة عامٍ، اشتمل على أشكالٍ نضاليةٍ متنوعة، اقتضتها طبيعة وشروط كل مرحلة، من مراحل التاريخ الفلسطيني الحديث، وهو يواجه المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، والدولة الراعية له مُمثلة ببريطانيا العظمى، ومن بينها الشكل المسلح.

ولعل أول تجربة في المقاومة المسلحة تنسب إلى المجموعة المعروفة بمُسمى “الكف الأخضر” في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وعلى ما يبدو لن يكون آخرها مجموعتي “عرين الأسود” و”كتيبة جنين”، وما بين الظاهرتين الأولى والحالية، ثمة مُسميات مُتعددة قد تصل إلى حدود المئات في مختلف المحطات الثائرة التي تصدت للعصابات الصهيونية عام 48، ومسميات سنوات الخمسينيات والستينيات، إلى مُسميات الفصائل والتشكيلات الكفاحية بعد نكسة العام 67، إلى مُسميات المجموعات في مرحلة الانتفاضة الأولى والثانية، كما ويمتد تاريخ طويل بين “الفزعة” أثناء ثورة 36، وصولاً إلى الكتائب المُنظمة في المرحلة الراهنة، ولعل أهم استخلاص يمكن تسجيله من هذه الظواهر، هو الروح الكفاحية العالية التي اتسم بها النضال الفلسطيني، والحيوية والعفوية والإحساس الوطني العميق.

ظهرت مجموعة “الكف الأخضر” المُسلحة بعد ثورة البراق ببضعة أشهر، وينسب تأسيسها إلى أحمد طافش، أحد أبناء الطائفة الدرزية الفلسطينية، وصديقه محمد عثمان الكردي ومعهم زهاء 27 ثائراً، حملوا السلاح، ونفذوا عدة عمليات فدائية ضد أهداف انجليزية وصهيونية في منطقة شمال فلسطين، قبل أن تنجح السلطات الانجليزية بملاحقتهم وتصفيتهم، وتفكيك الظاهرة، وهي لا تزال في بدايتها.

مَثّلت مجموعة “الكف الأخضر” أولى التعبيرات الكفاحية المُسلحة الفلسطينية في مواجهة المستعمر، وشَكلّت الهامًا وإرهاصًا لظهور المجموعات القسامية عام 34-35 قبل أن تسمح الظروف بانفجارٍ ثوريٍ عارمٍ تَمثّل بثورة 36.

لقد وُلدت مجموعة “الكف الأخضر”، في ظل ظروفٍ تاريخيةٍ صعبة، تَمثّلت بتمدد المشروع الصهيوني، واستيلاءه على المزيدِ من الأراضي وتشييد المستعمرات، وتزايد أعداد المهاجرين المستوطنين بالتواطؤ مع السلطات البريطانية المُحتلة، وكانت ثورة البراق تُشكّل مفصلًا تاريخيًا مهمًا، عَبّرت عن حالة الغضب المتنامية رفضاً لسياسات المُستعمرين على الأرض، وعن حالة السخط على النخبة الفلسطينية وعائلاتها المتصارعة على الهيمنة، من دون أن تفلح في مواجهة استحقاقات المرحلة، والتصدي لمسؤولياتها الوطنية، وإذا كانت تلك الحالة قد مهدت لظهور مجموعات “الكف الأخضر”، كتعبيرٍ عن حالة الرفض لما آلت إليه الأوضاع في تلك المرحلة، فقد عَبّرت مجموعات “عرين الأسود، وكتيبة جنين” عن حالة الرفض والسخط الشعبي على استمرار الانقسام، وتنامي الممارسات العدوانية الصهيونية على الأرض.

أما الفارق بين الظاهرتين فَيتمثّل بانطلاق الكف الأخضر من الصفر، أي من دون الاستناد على ارثٍ في التجربةِ الكفاحية، فيما كانت الثانية ترتكز على ارثٍ طويلٍ من الهبات والانتفاضات.

 ولعل أبرز ما يجمع ما بين الظاهرتين، هما ظهورهما في مراحل صعبةٍ ومجافية، وتعبران عن حالة سخط وغضب على الأوضاع السياسية السائدة في كلِ مرحلةٍ، وافتقادهما للامكانيات المادية والسلاح والخطاب، إلى جانب العفوية والارتجال وسرعة الظهور والتفكك وتأثيرهما المعنوي في الجماهير الشعبية.

وإذا كانت هاتين الظاهرتين تعكسان أزمةٍ وطنية في كلِ مرحلة، فقد عكس تعدد المسميات أثناء الانتفاضة الأولى، حالة الجيشان الشعبي، وزخمة وحيوية الشعب الفلسطيني، وروحه الكفاحية وتضحويته في تلك المرحلة العاصفة، كما أن تلك المجموعات شبه العسكرية كانت لها انتماءاتها ومرجعياتها التنظيمية، وتواصلت لسنوات لأنها كانت تتغذى على الانتفاضة وتطورها.

أما الانتفاضة الثانية، فقد أفرزت ووَلدّت تشكيلات ومجموعات كفاحية متعددة، بعضها ينتمي للحالة الفصائلية القائمة (القسام، الأقصى، السرايا، أبو علي مصطفى.. الخ)، وبعضها لم يعلن أي انتماءه لفصيل محدد كمجموعات (عمر المختار، حزب الله فلسطين) رغم انطفاؤهما سريعاً بفعل الملاحقة الأمنية “الإسرائيلية”، ولصالح ظهور التشكيلات العسكرية للفصائل على الساحة.

وفي هذا الإطار، انطوت التجربة الكفاحية لكتائب شهداء الأقصى، لا سيما في الضفة الغربية، في تلك المرحلة على أزمة فتح كفصيل أم لتلك الكتائب. حيث ظهرت فروع متعددة لكتائب شهداء الأقصى، وبعضها حمل مسميات وتعبيرات مختلفة لتمييز نفسها عن الكتائب مثل (مجموعات النذير، كتائب العودة، السواعد السمراء.. الخ) وكانت في حجمها ذات طابعٍ محلي. ومع أن حركة فتح ظلت هي المرجعية الاسمية والمعنوية لتلك المجموعات، إلا أنها كانت تتداخل مع مرجعيات خارجية كحزب الله وإيران.

وفي قطاع غزة ظهرت بعض المسميات إلى جانب كتائب الأقصى ككتائب أحمد أبو الريش وحركة المجاهدين التي خرجت من رحم حركة فتح ولكنها الآن مدعومة من حركة حماس.

أما التشكيل العسكري الكفاحي الأبرز في القطاع، الذي يُعبّر عن تلك الحالة، فقد تَمثّل بلجان المقاومة الشعبية، وذراعها العسكري ألوية الناصر صلاح الدين، والتي أعلنت عن نفسها كتنظيمٍ مستقل لا يتبع أيٍ من التنظيمات القائمة، وكانت جل عناصرها تنتمي سابقًا إلى تنظيمات مختلفة أبرزها فتح والجبهة الشعبية، كما وظهرت بعض المجموعات الإسلامية المنشقة عن حماس وغيرها، أو التي تنتمي لتيار السلفية الجهادية، كجيش الإسلام، وجيش المجاهدين ولاحقاً بعض المجموعات الداعشية الصغيرة.

وهذه التشكيلات العسكرية المتباينة في القطاع تُعبّر عن أزمة الفصائل من جهة، وعن حالة الزخم الثوري الذي وَلدتّه الانتفاضة الثانية، واستمرار حالة الحصار والحروب على القطاع، حيث بقيت تلك الظواهر، واندثر بعضها وتلاشى مع الوقت، فيما حافظت الأذرع العسكرية للفصائل المقاومة الأساسية مثل (القسام، السرايا، أبو علي، شهداء الأقصى، لجان المقاومة، المقاومة الوطنية.. الخ) على استمراريتها وحضورها. 

ومع انحسار الانتفاضة الثانية في الضفة، وخلال الفترة الفاصلة بين العام 2005، وحتى يومنا هذا، طغى شكل العمليات الفردية على المقاومة ضد الاحتلال (طعن، دهس، مولوتوف، حجارة، إطلاق نار.. الخ)، ولم تظهر أيةِ مسميات تُعبّر عن هذه الظواهر، باستثناء بعض العمليات العسكرية التي تم الإعلان بشكل غير رسمي عن انتماء منفذيها لتنظيم “داعش” طوال السنوات الماضية، لا سيما قبل بضعة أشهر من هذا العام.

غير أن ظاهرة العمليات الفردية، تطور عنها ظاهرة المجموعات العنقودية التي انتشرت في عدةِ مناطق في الضفة، ليتطور هذا الشكل سريعاً، إلى أن وجد تعبيره في ظاهرة “عرين الأسود” في نابلس، و”لواء جنين” في منطقة جنين.

وما يميز هاتين الظاهرتين، أن أفرادها ينتمون إلى فصائل متعددة، كتعبير عن حالة السخط الشعبية على تردي الأحوال العامة، واستمرار الانقسام، وتراجع تأثير الفصائل الوطنية الإسلامية.

وتتسم بنى هذه التشكيلات التنظيمية بالضعف والهشاشة، لسرعة تَشكّلها وبفعل ملاحقة الاحتلال لها، وتصفية العديد من قادتها وعناصرها، كما تفتقر للخبرات التنظيمية والقتالية وللدعم المالي وللسلاح، كما اتسمت هاتين الظاهرتين بالعلنية والعفوية والارتجال، وبروح تضحيوة وقتالية عالية.

وما بين الأمس واليوم، بين (الكف الأخضر وعرين الأسود وكتيبة جنين)، ثمة تاريخٌ طويلٌ، شاهدٌ على عظمة شعبٍ ما فتئ يجترح المعجزات، في الإصرار والكفاح، واستيلاد أشكال كفاحية جديدة.

وإذا كانت الكف الأخضر، قد مَثّلت إرهاصاً وتوطئةً لثورة العام 36، فإن ظاهرة عرين الأسود وكتيبة جنين تمثلان إرهاصاً وتوطئةً لولادةِ مرحلةٍ جديدة، ولن يطول الوقت كثيراً على ولادتها.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى