مقالات

مقال بعنوان: “على صفيحٍ ساخن”

بقلم الأسير: كميل أبو حنيش – إذاعة صوت الشعب

قبل الانطلاق في محاولتنا لتفسير ما يجري من تطورات على الأرض، وتنامي حالة المقاومة الشاملة للاحتلال الصهيوني، وممارساته العدوانية الإجرامية بحق الشعب والأرض الفلسطينية، ينبغي في البداية أن نتوخى الحذر في إطلاق المسميات والتوصيفات، على بعض الظواهر والمظاهر التي تنطوي على أفعالٍ مقاومة، كإطلاق مسمى “الهبة أو الانتفاضة أو الثورة”؛ لأن الانتفاضات والثورات لها مقدماتها وأسبابها وعواملها التي تسمح باندلاعها، ولها شروطها وقوانينها وإمكانياتها التي تدفع باتجاه ديمومتها وتطورها، وانحيازها لأهدافها.

كما يتعين علينا الإشارة إلى قصر النظر في الفكر السياسي الفلسطيني، الذي لا يزال يتصور، أن انطلاق الثورات والانتفاضات، محكوم بالارادات الفردية، والرغبات الذاتية، وأن التجارب الثورية محض مخططات نابعة من القادة الملهمين.

فقلد درجت العادة على تسابق القادة لإعلان الانتفاضة أو نسبها لهذا الفصيل أو ذاك، هذا القائد أو ذاك، وكأن اندلاع الثورات، محكومٌ برؤى وتصورات وإرادات ذاتية وليست خاضعًا لسيرورات تاريخية، وعوامل ذاتية وموضوعية تسمح باندلاعها، وتتحكم في شكلها وطابعها وأدواتها، ومساراتها.

فمنذ ما يزيد على عقدٍ من الزمان، ونحن نسمع الدعوات من جانب بعض قادة الفصائل الفلسطينية، التي تحث الشعب الفلسطيني على إشعال ثورة جديدة، أو توقعات الكثير من المحللين الذين أكثروا من ترداد مقولة “الانتفاضة الثالثة”، من دون تعميق النظر في الظروف التي تعيق إمكانية اندلاعها، ولا بفحص الأسباب التي تحول دون ولادتها وتناميها وتطورها.

وهذه المواقف إما أن تكون نابعة من رغبات أو أمنيات، وإما أن تكون ناجمة عن تحليل قاصر، لا يأخذ في حسبانه، الإمكانية الواقعية، لانطلاق مثل هكذا انتفاضة.

إن التجربة الثورية الفلسطينية، في سياقها التاريخي الطويل، زاخرة بالهبات والانتفاضات والثورات، ولم تكن أحداثها ونقاط التَحوّل في كل ثورة أو انتفاضة خاضعة لأمزجة ورغبات القادة أو الفصائل، وإنما كانت تُفجرها الإرادة الشعبية العامة، التي في غالب الأحيان تكون قد وصلت إلى حالة من الجيشان، الذي يصعب ضبطه، أو التنبؤ بزمان انفجاره، فكل لحظة ثورية كانت لها ظروفها وعواملها، وأسبابها الكامنة والظاهرة، ولا يمكن سحب الماضي على الحاضر، ولا استنساخ أي تجربة، أو فصل أية حلقة، عن سلسلة حلقاتها التاريخية.

ولدى دراستنا لأية ثورة أو انتفاضة فلسطينية منذ ما يزيد عن المائة عام، سنجد أنها كانت خاضعة لشروط مرحلتها التاريخية.

إن ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم، من تصاعد أعمال المقاومة وتنوعها ضد الاحتلال، قد يُشكّل ارهاصات لموجات ثورية، من شأنها أن تحدث تَحولّاً يسمح بانفجار انتفاضةٍ جديدة. لكنها ليست بالضرورة استنساخًا لتجربة محددة، كالانتفاضة الأولى أو الثانية.

فالوقائع تتغير، والظروف تَتبّدل، وشروط الصراع تتعقد، وهو ما يجعل من امكانية التنبؤ بشكلها ومسارها، مسألة شاملة، الأمر الذي يستوجب التأني في إطلاق الأحكام الجاهزة.

إننا ومن خلال هذه الحلقات، التي ستحمل عنوان “الصفيح الساخن” سنحاول استجلاء ما يجري على الأرض ارتباطًا بالتطورات السياسية والميدانية، ومحاولة سبر أعماق الحالة الفلسطينية الراهنة، ومدى جاهزيتها لإحداث تَحوّلات جذرية، من شأنها أن تحدث تَصدّعاً في جدار العجز القائم، والتصدي لممارسات الاحتلال الغاشمة، وإرغامه على التسليم بالحقوق الفلسطينية.

إن استشراف امكانية اندلاع انتفاضة جديدة، يستدعي الإشارة إلى الاشتباك التاريخي المفتوح مع المشروع الصهيوني منذ ما يزيد على  المائة وعشرين عامًا، الذي لم يتوقف يوماً واحداً، ودراسة تلك التراكمات التي تدفع في كل محطة إلى اندلاع اللحظة الثورية، ومدى استجابة الجماهير لهذه اللحظة، واستعدادها لحمل رايتها، ودفع ثمن تضحياتها.

كما وترتبط امكانية اندلاع الانتفاضة، ارتباطًا وثيقًا بالسياسات الصهيونية على الأرض، وهو ما يستدعي دراسة طبيعة المشروع الصهيوني، والطريقة الأكثر جدوى في هزيمته: قتاله أم مساومته؟

لقد أثبتت تجربة الصراع المريرة، أن الصهيونية مشروعًا استعماريًا عدوانيًا لا يمكن إجراء أي مصالحة تاريخية معها، لأنها محكومة لطبيعتها الاستعمارية العنصرية والتوسعية. ولا يمكن لمثل هذه التجارب الاستعمارية أن تنحو باتجاه السلام، أو تتقيد بشروط التسوية، وإنما تنزع باتجاه المزيد من الممارسات العدوانية، وهو ما يفاقم الأوضاع على الأرض، ويجعل من امكانية انفجار الثورات، مسألة واقعية بل وحتمية.

أما عملية التسوية المتعثرة المعروفة بعملية أوسلو واتفاقياتها ونتائجها على الأرض، فقد وصلت إلى طريق مسدود، وأظهرت نوايا ورؤية الدولة الصهيونية وتعريفها للسلام المرتكز على الرؤية الأمنية، وتجريد الفلسطيني من حقوقه، وامكانياته التي تسمح بإقامة دولة حقيقية.

كما أظهرت التسوية الضعف الفلسطيني وفقدانه للأدوات الضاغطة، فضلًا عن انقسامه، وتقيد الطرف الفلسطيني المهيمن بشروط التسوية الفاشلة، الأمر الذي يجعل من بقاء الأوضاع على هذه الحالة المزرية مسألة تبعث على السخرية، وتجعل من تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال أو إعادة إحياء بعض مظاهر التسوية الميتة، مسألة غير قابلة لإعادة انتاج شروط التعايش مع هذه الحالة.

ليبقى خيار الهبة أو الانتفاضة خيارًا طبيعيًا ومشروعًا، ونتيجًة واقعية وإجابًة صحيحة على سؤال التسوية الخاطئ.

ومن ناحية ثانية، فإن الاستعصام بمقولة “المقاومة” من دون التصدي لمهامها وتبعاتها واستحقاقاتها، ورسم استراتيجيتها، وتطوير أشكالها وتكتيكاتها، وتوحيد صفوفها، أو بناء أطرها القيادية الموحدة، وقبلها إنهاء الانقسام السياسي، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني فإن مقولة المقاومة، تبقى مقولة جوفاء، مفردة تتردد في الخطب السياسية، كدلالة على العجز وضيق الأفق، وهروبًا من مواجهة الأزمة الفلسطينية الراهنة.

فإذا كانت التسوية تعيش حالة استعصاء مميتة، فإن المقاومة أيضًا تشهد مأزقًا حقيقيًا يبقيها في حالةٍ من الجمود والدوران في ذات الحلقة التاريخية المفرغة.

إن مأزق المقاومة، مرتبط بالأزمة الفلسطينية الداخلية المتفاقمة منذ ما يزيد على خمسة عشر عامًا، حيث لم تفلح الجهود الداخلية والإقليمية في تفكيكها، والوصول إلى حالة وطنية موحدة، تتفق على رؤية موحدة، وترأب صدع الانقسام وتواصل معركتها التحررية.

إن هذا المأزق يدفع باتجاه تنامي الاحباط الشعبي من الحالة الفلسطينية برمتها، ويسمح بولادة ظواهر مقاومة شعبية ساخطة على الوضع القائم، ولا تنتمي إلى أيةِ حالةٍ فصائلية.

ولعل أبرز ما سيميز هذه الظواهر، هي رخاوتها وافتقارها للبنى التنظيمية الصلبة، وعفويتها، ارتجاليتها، جرأتها، وهو ما سيسهل من عملية ضربها واحتوائها وتفكيكها.

وأخيرًا، لابد من مقاربة المأزق التاريخي الذي يشهده الكيان الصهيوني، وأزماته المتفاقمة، وهو ما يدفعه إلى تصدير أزماته وانتهاج سياسات من شأنها أن تقود لردود أفعال من الطرفين المتصارعين.

إن الأزمة السياسية الراهنة في “الدولة العبرية”، تعكس انقساماً غير مسبوقاً حول عدد من العناوين الهامة، هوية الدولة، نظام الحكم فيها، اقتصادها، سياساتها الخارجية والداخلية، حروبها المستقبلية.. الخ.

وهي عوامل تعكس نفسها بالضرورة على الصراع الفلسطيني- الصهيوني، وتدفع باتجاه المزيد من الصدامات بين الطرفين.

وبناءً على كل ما سبق، تصبح الانتفاضة حالة طبيعية تمامًا لا هي وسيلة ولا هي غاية، تستولدها ظروف الصراع القائمة والممتدة في الزمن الفلسطيني المقاوم، فليس ثمة هدوء يسبق العاصفة، لأن العاصفة لم تهدأ يوماً، وإن تراخت شدة رياحها بين محطةٍ وأخرى، وليس ثمة اشتعال وضمور للثورات، وإنما ثمة جمرٌ دائم يتأججٌ تحت الرماد.

بقلم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كاتب وأديب وشاعر، ومفكر فلسطيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى