أحدث الأخباررئيسية 1شؤون فلسطينية

غسان كنفاني ما زال حاضراً في قلوبنا وعقولنا بعد 50 عاماً على استشهاده

إذاعة صوت الشعب

على الرغم من استشهاد رفيقنا غسان عن عمر لم يتجاوز الستة والثلاثين ومشوار طويل ومرير مع المرض، فقد ترك لرفاقه وأبناء شعبه وأمته العربية عموماً والفقراء والكادحين خصوصاً، أضعاف ما تستوعبه تلك السنين القليلة، عبر مشاعل مضيئة ما زالت تغوص في معانيها مشاعر المناضلين، وعقول وأقلام المثقفين الذين كتبوا آلاف الصفحات عن زخم إنتاج شهيدنا المثقف العضوي المناضل والروائي المبدع والكاتب السياسي والإعلامي والفنان غسان كنفاني الذي استطاع أن يصنع معجزته الفريدة، وترك لنا تاريخاً حافلاً بالإبداع والشموخ والتحريض على التغيير والثورة، يعتز به ويسير على هداه كل رفاقه في الجبهة الشعبية الموزعين على مساحة الوطن في الأرض المحتلة 48، كما في مدن وقرى ومخيمات الضفة وقطاع غزة، كما في الشتات والمنافي في كل أرجاء هذا الكوكب، يناضلون اليوم على أمل استعادة دورهم الطليعي كما كان في حياة غسان، دون القفز عن المتغيرات التي اصابت القضية والمنطقة منذ استشهاده إلى اليوم. 

صانع حياة الفلسطينيين..!

فمنذ اقتلاعه من أرضه عام 1948، ظل غسان –كما يقول د. صالح أبو إصبع- يمتلك ما هو أكثر من الذاكرة، لقد كبر غسان اللاجئ الفلسطيني ليكبر معه الوطن وقضية الوطن، ولم يستطع أن يتجاوز ذلك الحلم والهاجس الدائم، فأسهم بإبداعه في صنع حياة الفلسطينيين من حوله، وخاصة رفاقه في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية، لتكون حياة محكومة بالاشتباك الدائم مع العدو الصهيوني ومع واقع المعاناة والفقر والتشرد، ومع الأنظمة العربية التي قهرت وما زالت تقهر الفلسطيني وتحوله إلى مجرد رقم أو بطاقة تموين أو موظف نفطي يكدس الأموال أو مطارداً للشرطة والمخبرين، هذا هو غسان الذي لم يكن مبدعاً أو روائياً فحسب بل كان مناضلاً وكاتباً سياسياً ملتزماً بأهداف ورسالة الحزب والجبهة واستشهد في سبيلها. 

– الهدف (المجلة) كانت، إلى جانب الإبداع الشخصي، هي من جعل من كنفاني هدفاً للاغتيال، لقد جمع رفيقنا غسان بين عمق المبدع، وجموح الثائر، وعمق المفكر القومي التقدمي، وحنكة السياسي المناضل، لهذا مجتمعاً كان لا بد من اغتياله. 

– ربما نسأل أنفسنا، ترى لماذا لا زال يُكتَب حتى اليوم عن غسان كنفاني وكأنه اغتيل أمس أو كان أدبه كتب قبل لحظة؟ 

والجواب بسيط: غسان كنفاني مبدع متعدد الأوجه والدلالات والأفكار وعمق الرؤية، مع كل مرة تقرؤه تكتشف جديداً، كلما رأيته اكتشفت في وجهه ملامح جديدة، المؤسف أننا نستطيع الزعم بأن العدو اكتشف مواهب الرجل قبل أن يكتشفها كثير من الفلسطينيين والعرب، فحسم أمره في حين لا زال البعض في الساحة الثقافية الفلسطينية والعربية غير منتبه إلى ذلك الكائن السري الساكن بين حروف كنفاني. 

غسان والحكيم و أبو علي مصطفى وأبو ماهر اليماني ووديع حداد وآخرين مثلهم.. انحصر همهم الأساسي في القضية الوطنية والنضال من أجل التحرير، وفي النضال من أجل تخليص فقراء شعبنا وكادحيه من معاناتهم دون أي قطيعة فقراء وكادحي الجماهير الشعبية في كافة بلدان الوطن العربي. ففي البلدان المتخلفة والتابعة، وخاصة التي لم تتبلور فيها الطبقات، فإن للمثقف وظيفته الرئيسية في رأينا تقوم على إسهامه في تطوير واستنهاض أو توليد الأحزاب السياسية الطليعية التي تناضل من أجل تغيير الواقع المهزوم وتجاوزه صوب أهدافها الوطنية والقومية المعبرة عن طموحات شعوبها. 

ولكن كيف يفسر هذا الكلام سلوك غالبية المثقفين الذين يؤثرون السير مع السلطة الحاكمة؟ تأتي الإجابة عبر إقرارنا بوجود –واستمرار- الأزمة الشمولية الراهنة (السياسية- الاجتماعية- الاقتصادية والثقافية)، ذلك إن تشخيص أزمة الثقافة الفلسطينية (دون عزلها مطلقاً عن إطار الثقافة العربية) لا يعدو أن يكون توصيفاً أو تحديداً لوجه من وجوه تلك الأزمة، وهو وجه لم يكن طوال التاريخ الحديث والمعاصر قادراً على تفعيل أدواته الثقافية أو المعرفية، تفعيلاً رائدا أو رئيساً في السياقالنهضوي العام… فالفجوة تزداد اتساعا بين المثقف والواقع، بحيث يتبدى أن المثقف في واد، والواقع في واد آخر. إن هذه الصورة القاتمة دفعت الكاتب الفلسطيني “إحسان عباس” إلى التأكيد على أن غياب المثقف في أدب غسان كنفاني، يعود إلى اطمئنان غسان إلى قدرته على تصوير هذا العالم الواقعي الذي يعج بالكادحين البؤساء، بحيث جعله يشيح النظر عن عالم المثقفين أو النظر إليه في ريبة. 

والسؤال هنا لماذا اتخذ المثقف الشهيد غسان هذا المنحى؟ وهل يعود موقفه هذا إلى الممارسة الذاتية النخبوية للمثقف وغربته عن الواقع؟ أم إلى دور النظام أو المؤسسة الحاكمة (العربية أو الفلسطينية) التي صاغت مثقفاً لا تراه لأنها لا تريد أن ترى دوره الثقافي –السياسي المستقل- كما يقول فيصل دراج بحق؟ فالثقافة الناتجة عن السيطرة والخضوع لا يمكن أن تكون ثقافة جماهيرية ولا تنتج سوى مزيداً من أشكال الثقافة المأزومة، كما هو الحال في الثقافة التوفيقية أو التلفيقية التي تحتل في هذه المرحلة الهابطة، مساحة واسعة من إطار الثقافة العربية بسبب رئيسي يعود إلى جهود أولئك “المثقفين” المحترفين في إطار مؤسسة السلطة والحكم، أو في إطار المنظمات غير الحكومية، وبالتالي فان أهم سمات أزمة ثقافتنا الحالية تكمن في تبرير الوضع القائم وإضفاء الشرعية على الممارسات السالبة – في النظام العربي والسلطة الفلسطينية- عبر أولئك المحترفين الذين لا هم لهم سوى قبض ثمن التكيف أو التواطؤ عبر شعارات ديماغوجية قد ينخدع بها البعض في لحظة معينة، لكنها لن تمتلك مقومات الثبات والديمومة، إذ سرعان ما ستكشف حركة الواقع زيفها وغياب مصداقيتها. 

إن مهمة المثقف هي ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاماً بما ينبغي أن يكون عبر وظيفته النقدية بالمعنى الموضوعي، وهي تتناقض كلياً مع وظيفة التبرير، هنا يتداخل عضويا مفهوم المثقف مع مفهوم الطليعة بالمعنى المعرفي والسياسي التي ترى الالتزام تجسيداً لرؤيتها. ولعل ذلك ما دفع “جرامشي” إلى التأكيد على دور “المثقف المتمرد”، أو المثقف العضوي الملتزم، فالمثقف بالمعنى الحقيقي هو الذي لا يرتضي بالأفكار السائدة أو المألوفة، هذا هو المبدأ الذي جسده غسان حتى لحظة استشهاده. 

فالثقافة بالمعنى الحقيقي، هي الثقافة النابعة من المثقفين الذين لا يرتضون بالأفكار المألوفة، وبأفكار الأنظمة التابعة التطبيعية الخاضعة والمستبدة. لذلك كله، ينبغي على رفاق غسان في أوساط اليسار الماركسي في فلسطين والوطن العربي، التمييز بين من يمارسون الفكر من أجل تغيير الواقع والثورة عليه، وبين من يمارسون تحطيم الفكر والوعي حفاظاً على مصالحهم وتبريراً للنظام أو السلطة أو الواقع البائس الذي يحتضنهم. ولعل الواقع العربي، المصنوع من خيبات كثيرة ونجاح قليل، هو الذي يُقنع المؤرخ، حتى لو كان نزيهاً، بإضافة شيء تحريضي إلى التاريخ، على خلاف ذلك، فإن المثقف الملتزم (كاتب أو روائي أو فنان) يرى الحاضر عارياً لكي يشتق رؤية المستقبل من معرفة الحاضر. 

فما قيمة الثقافة التي لا تتعاطى وتتفاعل مع الهموم الوطنية والطبقية للجماهير الشعبية، وما قيمة المثقف الذي لا ينخرط في العملية التغييرية؟ فجبهة الثقافة هي الجبهة الأخيرة في الواقع العربي المهزوم حسب المثقف التقدمي السوري الراحل “سعد الله ونوس”. والسؤال: كيف تتحول أمة عريقة كأمتنا إلى نعاج تنتظر الذبح…؟ أليس هذا ما آلت إليه هذه الأمة من وجهة نظر مثقف الأنظمة الكومبرادورية وقوى اليمين أو السياسات الواقعية؟ 

إن رفضنا في أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في مغرب ومشرق الوطن العربي لهذا الاستنتاج، لا يعني إغفال هذا الواقع المهزوم، بل يعني التمسك – وبوعي عميق- بمبادئنا ودور أحزابنا الطليعي في هذه المرحلة تأسيساً للمستقبل، شرط أن نعمل بعزيمة وثبات على الخروج من حالة الأزمة التي تعيشها مجمل فصائل وأحزاب اليسار اليوم صوب النهوض الذي يتطلع إليه كل رفاقنا، فبالرغم من التجربة الطويلة والغنية، وما جسدته تلك الأحزاب والفصائل من تضحيات غالية ونهج ثوري مميز، إلا أنها تعرضت للعديد منالاهتزازات الداخلية التي لا يتسع المجال هنا للاستفاضة بها، ولكن أهم هذه الاهتزازات هو حالة التراجع الفكري والسياسي والتنظيمي الذي تشهده معظم أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا في المرحلة الراهنة. 

ولذلك نحن مع غسان – كما يصف فيصل دراج- لن يكون الكفاح الفلسطيني مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم، ولن يكون القائد الوطني جديراً باسمه إلا إذا كان واجبه التحريض على هذه الإرادة وخلق أشكال سياسية بلا مراتب وبلا رعية وأعيان أو محاسيب أو شلل داخل الحزب، إذ أن استمرار هذا الوضع لن ينتج سوى قيادة عاجزة وغير متجانسة ستدفع بالحزب إلى مزيد من التفكك والخراب. 

من نقد الثورة إلى الثورة 

في دراسته الرائدة عن ثورة 1936 لا يخلص فقط إلى أن 92% من المشاركين فيها كانوا من الفلاحين وفقراء المدن، بل يخلص أولا إلى بلادة وعجز وغثاثة القيادة السياسية المسيطرة، وقد تفصح دراسته عن حقيقة قيادة مضت، لكنها تفصح وتفضح أولاً معنى ومآل: “الشكل التقليدي للقيادة السياسية”، مهما كان الفكر الذي تقول به، والذي يحول المقاتلين أو المجاهدين، أو الشعب إلى رعية يوجهها ويشرف عليها “الأفندية أو الأعيان” أو تيار الهبوط السياسي من رموز الفساد في هذه المرحلة وذلك في تقسيم استبدادي للعمل السياسي، يفصل بين القائد والمقاد. 

“اعرف عدوك” كان هذا شعار غسان، وهو يكتب رواية “عائد إلى حيفا” ودراسته الرائدة عن “الأدب الصهيوني” وهذا الشعار ينطوي لزوماً، على شعار سقراط الشهير “اعرف نفسك” يبدأ الشعاران من المعرفة، التي لا تظل معرفة إلا اذا بقيت سيرورة مفتوحة، حالها حال الكفاح الفلسطيني في الإطار القومي الذي يستوجب العمل على تغييره وتجاوزه من خلال مواصلة وتفعيل النضال التحرري والديمقراطي بمنظور الطبقي الماركسي على طريق تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية؛ وبدون ذلك حسب رفيقنا القائد الشهيد غسان فان الحديث عن النضال الفلسطيني متفرداً ضد العدو الاسرائيلي هو نوع من الوهم، ذلك أن الصراع هو صراع عربي – صهيوني بالدرجة الأولى يكون الفلسطيني في طليعته. 

إن غسان المواطن، لا يتقن المواربة ولا يحبذ المواراة، فهو واضح كمثل أولئك الواقفين في طوابير استلام مئونة الإعاشة، يستلمون حصصهم ثم يشتمون من قام بتوزيعها!!! يقاتلون ويقتلون، فلا يشعرون بأنهم قدموا شيئاً، غسان أيضا يقول ذلك بطريقته، فهو لا يستثني قيادة الثورة الفلسطينية من ذلك، بل لا يستثني الشعب والمجتمع نفسه أيضاً حينما يصرخ “لماذا لم تدقوا جدار الخزان؟” إنه يعتبر نفسه هنا كفلسطيني متأخراً باحتجاجه، ليصل إلى قمة السخط بتحميل بعض الإدانة للضحية نفسها التي لم يكن احتجاجها عالياً في البداية. 

في هذا السياق لطالما تحول التساؤل الصارخ من أعداد غفيرة من المثقفين “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟” إلى سؤال رمزي ووجودي في الأدبيات السياسية والفكرية والعربية، وحمل دلالات كثيرة لم تنفك عن تحليل أبعاد تلك الصرخة بالسؤال: ترى هل كانت ستتغير المعادلة لو قرعوا جدران الخزان؟! 

الحقيقة أن طلائع الشعب الفلسطيني دقت جدران الخزان، لكن العرب العاربة أصحاب المصالح الطبقية الخاضعين بلا حدود للشروط الإمبريالية كانوا غارقين في سبات تخلفهم وعجزهم، وذهب البعض الآخر إلى القول: أنهم لن يستفيقوا حتى ولو أصمَّت أصوات القرع آذانهم. 

الفلسطينيون وسؤال غسان كنفاني اليوم: ماذا فاعلون؟ 

ماذا سيفعل الفلسطينيون عموماً ورفاق غسان خصوصاً في ذكراه اليوم في غزة التي باتت اليوم – ولأول مرة في تاريخها- تعيش حالة تختلط فيها الآمال الكبيرة مع اليأس الكبير، بعد ما شاهدت تفكك المشروع الوطني في أشلاء ضحايا أبنائها ودمائهم التي سالت هدراً في أزقتها وحواريها ومخيماتها، لكن غزة ستعود من جديد لترفع راية وحدة الشعب ووحدة الأرض وراية النضال الوطني والديمقراطي، وراية الهوية الوطنية والوحدة الوطنية وراية المشروع الوطني من أجل الحرية والعودة والدولة المستقلة وعاصمتها القدس ، لكن هذه الحقائق التي تجسدها غزة بكل مدنها ومخيماتها وقراها، لا تعمي بصائرنا وعقولنا عما يعيشه أبناء شعبنا في قطاع غزة الذين يسألون بصمت حزين، مسكون بالأمل، ما الفرق بين الزمن الفلسطيني اليوم وذاك، الذي نما فيه غسان؟ وعن ماذا سيكتب غسان لو عاش إلى هذا اليوم، الذي أضاف إلى مآسي الفلسطينيين القديمة مآسي وكوارث جديدة أشد خطراً من نكبة 1948، تتمثل في الانقسام الكارثي الذي مضى عليه خمسة عشر عاما أدت إلى تفكيك القضية والمجتمع ولم تفلح اتفاقات الوفاق الوطني واتفاقية للقاهرة 2011و 2017 في تحقيق المصالحة ودفن الانقسام، واستمر الصراع على السلطة والمصالح، الذي قد يعزز فصل ما تبقى من الوطن وتفكيكه بين مساحة لا مستقبل لها في قطاع غزة ومساحة في الضفة يمكن ان يتقاسمها العدو الإسرائيلي مع النظام الأردني… 

لا شك أن استشهاد الرفيق القائد غسان، أراحه من رؤية هذا المشهد… لكنه لو ظل بيننا فلن يفقد الأمل… ونحن معه في كافة فصائل وأحزاب اليسار وفي أوساط جماهيرنا الشعبية الفقيرة لن نفقد الأمل واثقين من أن المبادئ والأهداف التحررية الوطنية والقومية التقدمية هي التي تشكل وحدها جسر الخلاص من كل رموز الهبوط والتبعية والخضوع والاستسلام في بلادنا. وسنظل أوفياء لرسالة غسان ومبادئه المحمولة بكل الآمال الكبرى والتضحيات الجسام؛ فمهمة تحرير فلسطين عمل ينجزه بشر أحرار، ولنتذكر أن حركات التحرر في العالم، لم تكن مرفوضة، استعمارياً، إلا بسبب مشاريعها الحداثية التقدمية الثورية التي تحلم بحقوق المواطنة قبل أن تتحدث عن الوطن: إضافة إلى ذلك فإن الصهيونية، أنشأت مشروعها الاستعماري متوسلة العلم والتقنية ودولة القانون والديمقراطية لليهود بالطبع. 

إن بداهة غسان في أنه لم يكن مشغولاً بفكرة “الضمان” أو الجائزة أو الثواب العادل، وذلك لأمر واضح محدد ولا خفاء فيه، على الإنسان أن يخلق إنسانيته الفاعلة المطلوبة أخلاقياً، كما لو كان الإنسان الحقيقي مساوياً لمثال بعيد عليه أن يصيره، لن يكون الدفاع عن فلسطين والحال هذه، واجباً وطنياً مجردا، ولا استشهاداً من اجل عاقبة حميدة، بل وجهاً عادياً من وجوه الانسان الحقيقي، الذي يرفض كل ما يثلم شرف الإنسان ويحط من قيمته. 

ذكرى ميلاده أو استشهاده، أصدرت الناقدة “ماجدة حمود” قبل أكثر من عشر سنوات كتاباً عنوانه “جماليات الشخصية لدى غسان كنفاني”؛ مبرهنة أن الهامش المضيء لا يغيب حتى لو كان المركز الأسود سيداً، فالفلسطيني – الفقير والمضطهد خصوصاً- لديه ما تبقى له … الأرض، الزمن، مواجهة العدو، كما يقول غسان في روايته “ما تبقى لكم” وكأنه يستشرف حالنا اليوم في مرحلة الانحطاط المحكومة بأنظمة الكومبرادور. 

لم يكن كنفاني سوى حلقة من الموت الفلسطيني الكثير الذي غطى تاريخ المنطقة منذ بدء الغزوة الصهيونية واكتسابها شرعية دولية مع وعد بلفور إلى نكبة 48 إلى هزيمة 67 إلى أوسلو إلى الصراع بين القطبين (فتح وحماس وغياب المشروع الوطني او الدولة وغياب الافق السياسي معاً)، غير أن الموت الفلسطيني بدأ يتخذ شكلاً آخر غَيَّر مسيرة النضال والمعاناة الطويلة التي صارت مكوناً للهوية ولم تعد بحثاً عنها. 

إن الشعب الفلسطيني هو اليوم أمام امتحان نهاية مرحلة كاملة من تاريخه، أي إنه أمام امتحان بداية جديدة، كما يقول إلياس خوري، لكن البداية “هذه المرة لن تكون في فراغ، فلقد سال دم كثير وحبر كثير، ومن مزيج الدم والحبر ولدت حكاية رسمت صورة وتشكلت هوية”، هي الهوية الوطنية في وحدتها مع هويتها القومية العربية.. ذلك هو المستقبل ولا شيء سواه.

البداية الجديدة ستبني على البداية الأولى التي صنعها جيل غسان كنفاني، فالنص الفلسطيني (رغم كل مناخ الهزيمة والاستسلام والتطبيع الراهن) صار اليوم أرضاً ثانية تحمي الأرض التي يدور حولها الصراع وتعطيها تاريخاً وشخصية واحتمالات نمو، حيث تسمح لنا قراءة أدب الرفيق الشهيد غسان كنفاني، بأن نرسم ملامح الصراع الرمزي الذي خاضه غسان، لتقدم إطاراً مرجعيا لسؤال كبير: من هو الفلسطيني؟ 

لقد تشكل الجواب عن هذا السؤال في مستويين: 

– المستوى الأول، هو الارتباط بالأرض والانطلاق من هذا المعطى، لتأسيس علاقة بالمكان. 

– المستوى الثاني: هو الرد على النفي بالتأكيد، أي الرد على النفي الاسرائيلي لوجود الشعب الفلسطيني، بالانطلاق من المنفى كمعطى لتأكيد الهوية. 

لا بد من تأمل مسيرتنا الوطنية من أجل التحرير… لنكتشف أننا نسينا أو تناسينا في غمرة تفاؤلنا، التوقف أمام أو مع قضايا أساسية: ما هي طبيعة الكيان الصهيوني الذي سنحاربه؟ ما هي العلاقة بين الكفاح المسلح والعمل السياسي؟ وهل يتكاملان ويتفاعلان؟ أم أن لكل منهما قناة منعزلة عن الأخرى؟ ما علاقة الكفاح المسلح بالتسييس داخل المجتمع الفلسطيني نفسه؟ وما قيمة صراع الفلسطينيين مع العدو إذا كان معزولاً عن محدده الأول والأخير كصراع عربي صهيوني؟ 

لذلك لا بد من استعادة البعد القومي إلى م.ت.ف، ولن يتحقق هذا الهدف قبل إصلاح المنظمة؛ ولكن السؤال: إذا كانت منظمة التحرير جبهة وطنية واسعة، فما هي القواعد السياسية التي تحرر هذا الإطار الواسع من نتائج وآثار الاعتراف بدولة العدو، ومن الخضوع للهبوط السياسي الفلسطيني الراهن المرتبط بأوهام أوسلو أو أوهام الأمريكان؟ وما هي القواعد التي تحرر م.ت.ف من الشكلانية وسطوة واستبداد التفرد و “المحاصصة” وأحادية الرأي أو التناقض التناحري؟ 

المشوار ما زال طويلاً وشاقاً، فبعد مرور 74 عاما على قيام دولة العدو الصهيوني، لا يزال الفكر السياسي الفلسطيني للأسف في غير مكانه المطلوب. مرة أخرى يحتفل عدونا الإسرائيلي بقيام دولته، ومرة أخرى نستعيد نحن الفلسطينيون أطياف ذكريات ماضية، ولكن في وضع مؤسف عنوانه “تزايد الصدام بين قطبي الصراع” وانسداد الأفق السياسي بالنسبة للدولة أو المشروع الوطني لا فرق، والسؤال هو: ما هي تلك الغنيمة الهائلة التي يتنازع قطبي الصراع المتصادمين عليها؟ لا شيء سوى مزيد من الانهيارات والهزائم.. فالصراع الانقسامي بين الفلسطيني والفلسطيني لن يحقق نصراً لأي منهما، وإنما هزيمة جديدة لمن يزعم أنه انتصر، يؤكد على هذا الاستنتاج الواقع الراهن الذي يعيشه أبناء شعبنا في الوطن والشتات. ولذلك الحديث عن دولة فلسطين 67 في ظروف الانحطاط الراهن نوع من الوهم ولا حل سوى بالدولة الواحدة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها ضمن استراتيجية صمود على المدى البعيد، فلسطينياً، تستند إلى الديمقراطية وحرية المواطن بما يضمن لشعبنا سيرورة تطوره الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي.. الخ، واستعادة م.ت.ف لمنطلقها الوطني الجامع لكل شعبنا. وعربياً أيضاً لاستعادة بناء المشروع النهضوي الديمقراطي التقدمي الوحدوي العربي المناضل ضد الوجود الإمبريالي الأمريكي الصهيوني وإزالته انطلاقاً من أن الصراع هو عربي صهيوني بالدرجة الأولى. 

أخيرًا، كان رفيقنا القائد والمثقف الأديب المبدع غسان مثالاً للمثقف العضوي الحداثي والعقلاني التنويري والوطني والقومي الماركسي في آن واحد، لكنه لم يكن صاحب رؤية أحادية معرفية يقينية، قومية أو ماركسية يلتزم بجمود نصوصها بقدر ما كان مبدعاً في أدبه الثوري ومقالاته ودراساته السياسية والتاريخية، عبر تأويله للنصوص وتفسيره لها بما يقترب أو يتناسب أو يتطابق مع الواقع المعاش، فلم يكن ناطقاً باسم النص بل كان ثورياً يسعى إلى تغيير الواقع عبر وعيه له واستخدامه للمنهج المادي الجدلي في اكتشافه من جهة وعبر قناعته الموضوعية الثورية بمبادئ وأهداف الجبهة الشعبية من جهة ثانية. هكذا أدرك غسانً أن مهمة المثقف هي ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاماً بما ينبغي أن يكون عبر وظيفته النقدية والمعرفية الثورية بالمعنى الموضوعي، وهي تتناقض كلياً مع وظيفة التبرير أو النفاق المعرفي أو الثقافي اليميني الانتهازي أو الاعتراف الرث بالأمر الواقع، هنا يتداخل عضوياً مفهوم المثقف الثوري الماركسي مع مفهوم الطليعة بالمعنى المعرفي والسياسي التي ترى الالتزام بأهداف النضال الوطني ضمن الإطار القومي التقدمي من منطلق المنظور الطبقي تجسيداً لرؤيتها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى