أحدث الأخبارمقالات

الكنفانية والجبهة الشعبية

إذاعة صوت الشعب – مروان عبد العال

لماذا تتحول الأحزاب إلى مقبرة للمناضلين وطاردة للمبدعين؟ كان هذا السؤال بمثابة استنتاج وتحذير صارخ أطلقه الرفيق غسان كنفاني ، حينما تلمس الفشل في التقدم نحو ثورة اجتماعية، أو الدوران في حلقة مفرغة ومغلقة على الانشغال الذاتي، حيث تغرق الأحزاب في وسط التخلف، وتفقد طلائعيتها وتعجز عن القيام بوظيفتها في تأسيس تغيير حقيقي عميق في الوعي.
 
تأسست هذه المخاوف، بشكل مباشر، من خلال مجادلاته التنظيمية التي قالها من موقعه الملتزم بكامل شروط العضوية في منظمة ثورية تمارس الكفاح المسلح ضد عدو قوي، لأنه يدرك أن السياسة هي أمر آخر ولا يمكن أن يديرها أمّيون وجهلة.
 
نحو الثورية
 
يكثّف تعبير “الكنفانية” مشروع غسان الثقافي والأدبي والإعلامي والسياسي، باستثناء الفلسفة التنظيمية لغسان كنفاني، الجبهاوي والثوري ومبدع مسيرة التفكير من مرحلة التحول إلى التجديد داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .
 
وعند كل محطة من حياة الجبهة، تشتم رحيق فكرته مع بصمات جيل التأسيس، بحضورهم المادي أو الروحي منذ إرهاصات البداية إلى المؤتمر الوطني الثامن الأخير، والتي سجلت درساً مفاده أن التنظيم الحيّ يتنفس وينمو ويتراجع ويتعب ويصاب بالمرض والشيخوخة، يخطئ ويصيب، وهو قادر على المعالجة والتجديد وتصحيح الفكرة وإجراء مراجعة نقدية للتجربة بحلوها ومُرها، وبكل ما فيها من ترسبات وتعرجات ومعوقات الماضي، وقوة العادة واليقينيات والرصيد الثري والتاريخ الذي ينتمي إلى مدرسة فكرية ثورية جسدها جورج حبش ووديع حداد وأبو ماهر اليماني وغسان كنفاني.
 
خاض غسان كنفاني غمار التأسيس الفكري والتنظيمي والسياسي للجبهة الشعبية من مؤتمرها الأول في آب/ أغسطس 1968 والمؤتمر الثاني في شباط / فبراير 1969 الذي أقر وثيقة “الاستراتيجية السياسية والتنظيمية” التي ساهم غسان في صوغها.
 
شكّلت الوثيقة محطة مهمة على طريق التحوّل إلى يسار مقاتل. وارتباطاً بهذا التوجه أقامت الجبهة مدرسة بناء الكادر الحزبي في الأردن، وأصدرت “مجلة الهدف” التي ترأس تحريرها غسان كنفاني، وكراس “نحو التحول إلى تنظيم بروليتاري ثوري” الذي أصدرته دائرة الإعلام سنة 1970، عن بناء الكادر وتقديم تفسير عن مسألة التحول إلى تنظيم ثوري، التي طرحتها الجبهة عبر الانتقال من الالتزام العفوي والطبقي إلى وعي فكري؛ من حركة إلى جبهة إلى حزب.
 
كان غسان بارعاً برفض الانتقال الميكانيكي من واقع إلى آخر، وقد قدمت رؤيته “أفكار عن التغيير واللغة العمياء” التي ألقاها في دار الندوة ببيروت سنة 8196، طرحاً متقدماً عن القيم الحزبية الثورية، والتي ما زالت تصلح لأن تكون نموذجاً للدراسة والنقد ومنطلقاً لعملية التطوير، فكتب: “لقد اتخذت أحزابنا في تجاربها الماضية صيغة من صيغ التجمع الطائفي أو العشائري أو الطلابي، وهي في مجموعها صيغ لا تحدد قوى اجتماعية حاسمة، وليست ذات حدود ثابتة وواضحة، وقد أدى ذلك كله إضافة إلى نقل عقدة الأبوة إلى التكوين الحزبي ذاته، وإلى شكل ومضمون علاقاته بالأحزاب الأُخرى، لقد أدى إلى تراكم كمي وليس إلى تطوير نوعي خصوصاً إن هذه العلاقات مجتمعة قد أتاحت قبول غياب الاستراتيجية للحزب والافتقار لسرعة استيعاب الظروف الموضوعية والارتفاع في إرادة علاجها إلى المستوى الفاعل”.
 
كشف عن التناقض
 
إن استعادة الكنفانية حتى من مدخل الجبهة الشعبية لمعرفة أوجه الصراع الفكري وتأثيره في البُنى التأسيسية التي أحدثت دوراً مغايراً في المجالين الحزبي والوطني، وخصوصاً في زمن البدايات والانفعالات والانشقاقات والتصدعات التي تحدث عقب اشتداد الأزمات، والفشل في السيطرة على الأسئلة، يظهر الصراع التنظيمي بين عقليتين ونموذجين متعارضين جذرياً، وتصبح النخب السياسية تستخدم الهوية التنظيمية، أو ما نسميه “التعصّب” في سبيل نصرة مصلحة ذاتية ضيقة على حساب الجماهير والمصلحة العامة، فقدم غسان تحذيراً حاداً ضد أي من النهجين “المزايدة” و”المناقصة” كما كان يسميها، وتحويل التنظيم من وسيلة للنضال إلى هدف، واستبدال الهوية الوطنية بالهوية التنظيمية. متصدياً لاتجاهات موضة “التمركس” واليسارية الراديكالية داخل التنظيم وخارجه، من موقع المفكر الذي يرفض القوالب الجاهزة والذي ينطلق من ذهنية إنتاج نظرية الصراع بعيداً عن اليسارية الطفولية والمراهقة، وفرسان الجملة الثورية، التي صنفت نفسها بأنها تيار ثوري ضد تيار مناضل، وتيار يساري ضد تيار يميني داخل التنظيم.
 
هذه الهرطقة وصفها غسان بالاتجاه الـ “مزايد” في مقابل الـ “مناضل”، وعندما تحول الصراع إلى صراع داخلي، دفعته إلى الاستنكاف والتأمل معتبراً أن العمل الحزبي محرقة المناضلين. فلم يهادن المتسلقين على المواقع الحزبية والمتفلسفين من أدعياء “الثورجية” من يحرقون المراحل لتأكيد هوية الجبهة اليسارية فقط للمباهاة أمام العالم، فتعرض للتشهير الشخصي من جماعة الشعاراتية؛ مرة بتسميته البرجوازي الصغير والمثقف صاحب السقف العالي، وحتى إلصاق التهم ونعته “باليميني”، ووصل انحدار الوعي لدى دعاة “البلترة” و”المركسة” إلى انتقاء بعض الفقرات والجمل من كتابات ماركس وترديدها كتعاويذ. وسرعان ما انطفأت هذه الفقاعات أمام تحديات الواقع الصلبة، وانكشاف أصحابها أمام الحقيقة الثورية ومعظمهم غادر بالانشقاق أو بالعمالة.
 
كان غسان يسأل عن سر مقولة التحوّل الفكري وكيفية بناء وعي ثوري جديد وممارسة ثورية ليست لفظية، بديلاً من الأفكار المعلبة والمقولات المسبقة الصنع، وإلصاقها بالجبهة وببنائها الفكري والطبقي وإخلاصها للفقراء وأبناء المخيمات.
 
بهذا المعنى قدمت الكنفانية نموذجاً لفلسفة التنظيم في الممارسة والنهج والنظرية على حد سواء، وأخرجت النقد من شرنقة النخبوية والنسخ لتتحدى مؤسسات صناعة القرار، وتشارك في النقد من جهة وفي رفع المستوى المعرفي للهيئات القيادية، وفي وعي ومعرفة الواقع والغوص علميا وليس عاطفياً في مكامنه وتفاصيله من جهة ثانية.
 
الحزب والتنظيم
 
وفي محاضرته المذكورة أعلاه امتلك كامل الشجاعة ليوجه النقد إلى المؤسسات الحزبية، مجدداً للفكرة، عندما انتقد طريقة عمل الأجهزة التنظيمية، موغلاً داخل أجهزتها عندما يأخذ الرجل المؤسس طابع التقديس، وتصبح القلة المحيطة به تشكل السقف الذي تصطدم به الحركة الصاعدة للجيل الشاب.
 
أولاً: آليات عملها الداخلية التي تؤدي إلى التسلط وتعطل حركة النشوء وتقديس الدور القيادي لقادتها الذين لا بديل لهم إلاّ الانعكاس في تقييمها لذاتها حين جعلت من نفسها أيضاً قوة لا بديل لها.
 
ثانياً: في منهجية عملها الخارجية التي تؤدي إلى المبالغة في تقييمها الإيجابي المطلق لنفسها، من خلال تقييم سلبي مطلق لغيرها.
 
خلُص غسان إلى فلسفته الحزبية باعتبار أن الجسد الاجتماعي كما قال يمكن تشبيهه بالجسد البشري، فإذا كان لكل غدة دورها فإن الخطر ليس فقط في اختلال عملها الذاتي، لكن في اختلال علاقاتها بالغدد الأُخرى أيضاً.
 
إن أساس تدمير مفهوم الوحدة الوطنية يبدأ من البنية التنظيمية الداخلية لكل مكون حزبي وعلاقاته بالأحزاب الأُخرى، بربط مفهوم الوحدة بالنهج التشاركي الذي يشكل نواة الحس الديمقراطي الحقيقي. وغياب ذلك الحس يؤدي بدوره إلى عرقلة تبلور إستراتيجيا واضحة سواء لديها أو في تصورها للدور الذي ينبغي لجميع القوى أن تؤديه معاً.
 
أنضج غسان مفهوم الجبهة للوحدة الوطنية الفلسطينية في نص ومؤتمر صحافي نُشر سنة 1969 في العدد الرابع من مجلة الهدف كتب: “بحاجة إلى جهد من نوع خاص، وإلى جو صحي من الحوار البناء، يقوم على الاعتراف المتبادل بوجود خلافات، وبأن هذه الخلافات هي نتاج طبيعي لاختلاف الموقف الإيديولوجي، وإن طريق تذويبها في برنامج توحيدي أو برنامج جبهوي لا يمكن أن يحدث من خلال أسلوب التشنج، و’النفي’ والإلغاء، والاتهام”.
 
مارس نقداً منهجياً للحياة التنظيمية قبل الفصائلية، رافضاً تحويل التنظيم إلى حلقة ضيقة، واجتماعاته إلى روتين ممل، بدلاً من أن تكون عملاً تربوياً وطنياً منظماً يخضع للقيم الثقافية النبيلة وللضوابط الأخلاقية، فكتب “إن الحزب بالذات هو تكثيف للتجربة الديمقراطية، ولذلك فإن قدرة أي حزب وطاقته وجدارته تقاس بحركة الدورة الدموية في جسده، وسوف نرى بالتجربة التي مرت بها الغالبية الساحقة من أحزابنا إنها كانت تشكو من انعدام في الديمقراطية داخل أجهزتها ذاتها وأيضاً في العلاقة فيما بينها”. تلك المواصفات التي وجدها ضرورة، يجب أن تتوفر في المناضل السياسي الملتزم، من موقع الوعي باعتبار التنظيم الثوري يمثل القوة الثقافية البديلة واللازمة والكفيلة لتأدية الواجب الوطني.
 
كانت الكنفانية خصماً للنمطية الحزبية بمعناها التنظيمي الضيق، والقيود الحزبية والضوابط المتكلسة، وضياع ساعات طويلة في اجتماعات دورية مملة خالية من أي إبداع أو عطاء أو إنتاج ملموس. وإن الشروط التي تلغي ظاهرة التعدد لا مبرر لها، والذي هو في جوهره تكرار للأخطاء وللقصور أكثر منه تجديداً للمحاولات وتصعيداً للدور.
 
شكّل غسان وعياً متقدماً بشأن أزمة الجبهة لتمتعه بروح منفتحة على الآخرين ومهيأة للحوار والتفاعل والعطاء، متمرداً على الانغلاق والسطحية والفردية، التي كانت تحكم سلوك بعض القيادات غير المؤهلة فكرياً. فكانت سبباً بتوسيع فجوات التصدع والانشقاقات وتدني مستوى الكفاءة الحزبية، والهبوط بالمعايير والقيم الثورية.
 
الراهن والمستقبل
 
فالأزمة التي عصفت بالجبهة بعد الخروج من الأردن، وانشقاق الجبهة الثورية، ومحاولات التأثير على المؤتمر الوطني الثالث للجبهة سنة 1972، الذي عُقد في مخيم البداوي وكان غسان كنفاني قد حضره بطلب من وديع حداد، نظراً لقدرته الإقناعية وما يمتلك من رؤيا أكثر نضجاً بالنسبة إلى مسار العمل الوطني الفلسطيني ككل في تلك المرحلة! وتعامله الدقيق في معالجة الأسئلة مهما كانت صعبة وثقيلة، وهو الخبير في البحث الجدي عن سؤال الهزيمة، عقب نكسة 5 حزيران/يونيو 1967، التي أرسلت بعدها تهديدات متكررة من قادة استخبارات في أنظمة عربية للجبهة ولغسان كنفاني.
 
فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذاتها ولدت من رحم السؤال نفسه في سنة 1967، واستمرت وتطورت مع الكيفية التي يتحول فيها الجواب ذاته إلى سؤال جديد. وغسان كنفاني داخل هذه المعادلة، يدرك إدراك المثقف الجاد، بأن السياسي يفقد مبرراته إن لم يحسن الإجابة عن الأسئلة، لكن المثقف يفقد شرعيته من دون فلسفة السؤال.
 
غسان كنفاني عضو اللجنة المركزية العامة وليس عضو المكتب السياسي كما يظن البعض، هذه المرتبة نالها بعد استشهاده، لكنه نالها فعلياً يوم كلّفه الدكتور جورج حبش بصوغ خلاصة النقاش في المؤتمر الوطني الثالث، بوثيقة تاريخية صدرت بعنوان: “مهمات المرحلة الجديدة”.
 
أظهرت الوثيقة الدور القيادي لغسان كنفاني الشاب، والدور التنظيمي الأهم مما كان قد أداه من أدوار سابقة على الصعد الفكرية والسياسية والإعلامية. بل بداية دخوله إلى حلقة صناعة القرار، وهو ما جعل رفيقه عدنان بدر الحلو مؤلف كتاب “مطار الثورة في ظل غسان كنفاني” يجزم بالتالي: “ظلت هذه الرؤية تراودني بإلحاح بعد استشهاده.. وتشكل قناعتي بالسبب الذي دعا الإسرائيليين للتخلص منه.. باعتبار أنهم لم يختاروه عقاباً على ما كان قد فعله، بقدر ما كان ذلك استباقاً وإجهاضاً لما كانوا يتوقعون أن يقوم به.. أو بشكل أدق للأمرين معاً.. وهذا هو التفسير الذي تزيدني الأيام تمسكاً به وقناعة بدقته”.
 
قبل نصف قرن اغتيل الدور الذي سيؤديه غسان في المستقبل، وليس فقط ما قام به، كان رفاقه الأقرب قد حذروه “انتبهوا لغسان لأن إحدى المجلات نشرت له صورة مع يابانيين، قالوا إنهم من الجيش الأحمر الياباني”. هكذا قال الشهيد أبو علي مصطفى ، فأخد الدكتور وديع حداد الأمر على محمل الجد، وبالاتفاق مع غسان اتخذت إجراءات احترازية: مكتب بديل غير معروف، شقة سكنية بديلة، سائق سيارة، تغيير ساعات التردد للعمل وكسر الروتين. يقول أبو علي مصطفى، لكن غسان لم يكترث كثيراً بهذه الإجراءات.
 
على مدار سنوات غيابه، يزداد حضوراً، كلما حاولنا القبض على فلسفته التي هي وثيقة ميلاده الحقيقية وسجل خلوده في نقطة التقاطع الفردي والجماعي والثقافي والسياسي، فلسفة نحتاج إليها أكثر في زمن التفاهة والسقوط والفراغ والهوان، فلسفة متجددة تجدد الحياة نفسها، ودائماً في طور الميلاد ومرحلة البداية، مرحلة التأسيس بعد كل انهيار وخراب وهزيمة، كما كان يردد كلما اصطدم بواقع شبيه بما نحن فيه: “نحن لسنا الثورة.. نحن مرحلة التحضير للثورة”.
 
غسان الجبهاوي الاستشرافي الذي اخترق “تابو” الأحزاب و”تابو” السلطة والتقليد والجمود الفكري، في حوار بينه وبين أبو علي مصطفى جرى في قاعدة عسكرية في أغوار الأردن سنة 1968:
 
غسان كنفاني: نحن ثورة الشتات نحو الداخل في أرض ليست مواتية لها
 
المقاتل أبو علي مصطفى: وماذا ترى؟
 
غسان كنفاني: إن استطاعت الثورة الحفاظ على نفسها، فنحن نقترب من الوطن.
 
سر هذه الثنائية الإبداعية الكنفانية التي أجاد وصفها محمود درويش عندما قال: “نكتشف، أولاً ودائماً، أنه في عمق وعيه، كان يدرك أن الثقافة أصل من عدة أصول للسياسة، وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي”.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى